لم تكن هذه المساحات الشاسعة من صحراء الربع الخالي، كما يخيل للبعض مفتوحة، يسرح ويمرح من خلالها العابثون والحاقدون، وإنما أصبحت أضيق عليهم من خرم إبرة نتيجة فرض رجال حرس الحدود سيطرتهم على كل شبر منها، وحسب مساعد قائد قطاع خباش العقيد عوض القحطاني، فإن وجود الضباط والأفراد على طول الحدود التي تقع ضمن مسؤوليات قطاع خباش كان له أثر كبير في الحد من عمليات التهريب، بل ونجحوا في القبض على بعض المطلوبين من الفئة الضالة ومهربي ومروجي المخدرات، مشيرا إلى أن الكاميرات والموانع الاصطناعية والكاميرات الحرارية التي تعمل ليلا أسهمت أيضا وبشكل فعال في حماية أمن الحدود، مشيرا إلى أن عملية إحكام السيطرة لم تتأثر بالاختلالات الأمنية في اليمن التي استغلها بعض ضعاف النفوس في محاولة التهريب والتسلل لدخول الأراضي السعودية، مؤكدا أن الخطط التي وضعت كانت كفيلة بإجهاض أي محاولات.
توغلنا أكثر على الحدود، وفي كل مرة كنا نتوقف، يحدثنا العقيد القحطاني عن المواقف البطولية لرجال حرس الحدود، وكيف استطاعوا الصمود في وجه المهربين وصدهم وإجبارهم على العودة من حيث أتوا، رغم أن الثمن أحيانا يكون شهيدا نذر نفسه من أجل وطنه ومواطنيه، وفي أحد المواقع شاهدت خندقا ترابيا وطلبت من مرافقينا أن نقترب منه، وفضلت النزول من السيارة وتوجهت إلى الخندق لأقف عن قرب على بعض تفاصيله، فدهشت عندما نزلت أسفل الخندق المنصوب وسط الصحراء حيث يصل عمقه إلى سبعة أمتار، وعندما حاولت الصعود لم أستطع إلا بمساعدة بعض أفراد حرس الحدود، وسط جمال تعليقاتهم ومرحهم الذي أصبح سمة لتعاملاتهم مع بعضهم البعض في هذه الصحراء القاحلة، عندها سألت قائد قطاع تنصاب النقيب أشرف الشريف وأنا متعب: يا أخي كيف تراقبون كل هذه المساحات؟ فجاءت إجابته سريعة: وفق خطط اعتراضية يتم رسمها بناء على التجاوزات ومعطيات الحدث والعمليات الاستطلاعية، حيث يتم تحريك الدوريات العاملة في الميدان وتوجيهها صوب الهدف، وأضاف: صدقني رجال حرس الحدود أصبحوا على دراية حقيقية بالأماكن الخطيرة التي يحاول ضعاف النفوس العبور من خلالها، وهم ولله الحمد قادرون على كيفية التعامل معها.
ملاحم ومواقف
مواقف بطولية لرجال حرس الحدود لايمكن بل من المستحيل نسيانها، تذكرتها وأنا في طريقي من نجران إلى شرورة عبر الطريق الصحراوي الذي يشق الكثبان الرملية بمسافة تزيد على ثلاثمائة كيلو متر، كانت كفيلة بأن تستعرض مخيلتي رجالا سالت دماؤهم على رمال الوديعة وخباش والمعاطيف وسقام، وهم يدافعون عن وطنهم ويحمون مواطنيهم.
تذكرت تلك الملحمة لهؤلاء الرجال وهم يواجهون إرهابيين ضالين لا هدف لهم إلا الإساءة لهذا الوطن، ومهربين لا هم لهم إلا بث سمومهم في أوساط شبابنا لتدميرهم والقضاء على مستقبلهم، وكيف استطاعوا القبض عليهم وتقديمهم للعدالة وفي غضون ساعات محدودة لكنها صعبة ففيها من قضى نحبه ولاقى ربه بطلا شهيدا، وفيها من نال شرف الإصابة وعاد بكل فخر إلى ميدان الشرف.
ودائما وعندما يأتي الحديث عن هذه المواقف، ومن خلال لقاءاتي مع قيادات وأفراد في حرس الحدود، تأتي الإجابة «إنها دافع لمزيد من المواجهات مع الضالين والمهربين وكل من يريدون العبث بأمن الحدود لتنفيذ مخططاتهم أو تمرير مهرباتهم»، وهذه الإجابات لم تأت من باب الحديث العابر، وإنما يعلم الجميع أنها أفعال على أرض الواقع يسطرها بكل فخر رجال في الميدان، شاهدتهم شيبا وشبابا يتسابقون عبر دورياتهم المتحركة والراجلة وهم يضعون أرواحهم على أكفهم في مشهد يدعو للاعتزاز.
الوصول لشرورة
غادرنا مدينة نجران مع ساعات الفجر الأولى يرافقنا النقيب علي القحطاني الناطق الرسمي لحرس الحدود، ووصلنا لمقر قيادة قطاع حرس الحدود في شرورة بعد ثلاث ساعات تقريبا، ووجدنا قائد القطاع العميد عبدالله الزهراني وضابط الاستخبارات النقيب سعيد القرني في استقبالنا، وكانت قد سبقتنا توجيهات من قائد حرس الحدود بمنطقة نجران اللواء محيا العتيبي بتسهيل مهمتنا.
سألت العميد الزهراني عن مسؤوليات قطاع شرورة فقال: إنه يعتبر أكبر قطاع على مستوى المملكة حيث تصل حدوده إلى ثمانمائة كيلو متر ، وتضاريسه مختلفة تجمع بين الأرض المستوية، وغزارة الرمال، وعروق رملية مرتفعة قد يصل ارتفاعها إلى مائة وأربعين مترا، وهي بلا شك تشكل صعوبة لعمل الدوريات خاصة في المواقع الأمامية لأن المواقع الخلفية مخدومة بالطرق، مشيرا إلى أن مسؤوليات قطاع شرورة تبدأ من أجزاء في خباش مرورا بكامل شرورة وامتدادا إلى محافظة الخرخير.
وبين أن مشكلة التسلل تنحصر في الأماكن المأهولة بالسكان وتحديدا في شرورة وحارة الوديعة، ولكن هذه الحالات ولله الحمد تحت السيطرة، تساعدنا في ذلك الوسائل الرقابية في حرم الحدود، وصعوبة تقفي الأثر في بعض المواقع الرملية، مبينا أنها تعتبر من المواقع الأكثر صعوبة باعتبارها قريبة من تماس الحدود لكن الشبك الشائك الذي أقيم هناك ساهم بشكل كبير في الحد من حالات التسلل، رغم محاولات المتسللين عبور الحدود بعدة وسائل إلا أن الدوريات فرضت سيطرتها وتكاد تكون خالية من التسلل.
مواجهة المهربين
وأوضح العميد الزهراني أن قطاع شرورة يضم 7 مجمعات، وكل مجمع بمثابة قطاع، ونحمد الله لدينا القوى البشرية الكافية والقادرة على التعامل مع مسرح العمليات وفق خطط حديثة، ومن أهمها المسح المستمر على مدار الساعة، مشيرا إلى أن دوريات القطاع تمسح اثنين وثمانين ألف كيلومتر طولي على مدار الأربع والعشرين ساعة، وهذا يعكس الجهد المبذول في عملية استثمار هذه القوى البشرية، كاشفا عن تركيب أجهزة حديثة على مجموعة من السيارات لرصد تحركاتها ميدانيا، وتحديد مواقعها عبر الاتصالات قريبة وبعيدة المدى.
واستعرض العميد الزهراني بعض الأحداث التي شهدتها شرورة في أوقات سابقة، وأثبتت قدرة رجال حرس الحدود على التعامل معها، من بينها التعامل مع عدد من الأشخاص المغرر بهم، تم القبض عليهم قبل دخول الحدود السعودية دون مقاومة، أما الحدث الآخر فكان التعامل مع مجموعة حاولوا الخروج بطرق عنجهية تصدت لهم الدوريات وتم تبادل إطلاق النار ونتج عنه وفيات أثناء المواجهة، وقال إن هذه المواجهة بدأت أثناء دخول شخص متسلل حرم الحدود سيرا على قدميه، وبادر بإطلاق النار على أفراد الدورية، وعند محاولة وضع كمين يتم من خلاله القبض عليه وهو بالمناسبة أحد المتدربين في معسكرات القاعدة، لجأ إلى منطقة مظلمة خارج الرقابة واختبأ بين الأشجار وخلف ساتر ترابي بالقرب من بوابة جمرك الوديعة، مكنه من مشاهدة الأفراد الذين يصعب عليهم رؤيته، وتمت محاصرته لأكثر من ست ساعات وأطلق النار على قائد المجمع برتبة عقيد الذي انتقل إلى رحمة الله، أما الحدث الثالث فكان القبض على 12 شخصا في عملية نوعية أثبتت كفاءة رجال حرس الحدود ومدى تضحياتهم في سبيل المحافظة على أمن الحدود.
قلب الصحراء
غادرنا مقر قيادة قطاع حرس الحدود للغوص في وسط صحراء الربع الخالي متوجهين إلى مجمع المعاطيف الذي يبعد عن شرورة أكثر من 140 كم، حيث انضم إلينا النقيب سعيد القرني ضابط الاستخبارات بقطاع شرورة، الذي أخذنا قبل التحرك في جولة على مقر توقيف المتسللين الذي يقع في نفس مبنى القطاع، حيث وقفنا على ما يقدم لهم من خدمات إنسانية راقية، تتمثل في الغرف المفروشة، ودورات المياه النظيفة، والإعاشة التي تصرف لهم، يضاف إلى كل ذلك الحافلات الفخمة التي تتولى نقلهم تمهيدا لترحيلهم وهي وبكل صدق حافلات قد لاتتوفر لطلاب وطالبات المدارس وهي خدمات كما قال لي النقيب القرني نابعة من رغبة حقيقية في احترامهم والمحافظة على كرامتهم مهما كانت أخطاؤهم أو تجاوزاتهم.
أخذتنا السيارات التي أقلتنا ورافقتنا عبر طريق إسفلتي، وتوقفنا أكثر من مرة لمشاهدة موانع القارديل والحواجز الحديدية والصبات الخرسانية التي غطت تقريبا 60 في المائة من مسؤوليات قطاع شرورة، حيث أمنت المساحة المتبقية بالعقوم والحواجز الترابية، إلى أن يستكمل مشروع القارديل.
ومن مكان مرتفع شاهدنا مجمع المعاطيف الذي يقع بين الكثبان الرملية، وكأننا نطل على أحد المنتجعات، ذهلت وسألت النقيب القرني، إلى وقت قريب كانت المجمعات عبارة عن غرف عادية جدا، متى أنشئ هذا المجمع، قال قبل سنوات قريبة، مضيفا إن جميع المجمعات صممت على هذا الطراز إن لم يكن أفضل منه، وما أن اقتربنا من المبنى حتى شاهدنا أرتالا من السيارات تقف أمام البوابة، عدت وسألت النقيب القرني ما هذه السيارات؟ فقال إنها تحمل أرزاقا ومواد بناء متجهة إلى الخرخير، ولكنها تخضع لبعض الإجراءات لأن هذه السيارات تسلك الطريق الإسفلتي الذي تستخدمه الدوريات في عملية مسح الحدود، الأمر الذي يستدعي تسجيل أسماء أصحاب المركبات وأرقام لوحاتها، لاستدعائهم عند الضرورة، مؤكدا النقيب القرني أن هذه السيارات تخضع للرقابة والمتابعة إلى أن تصل إلى الخرخير.
مجمع المعاطيف
كان في استقبالنا قائد مجمع المعاطيف النقيب يحيى عائض القحطاني وعدد من الضباط والأفراد، وبعد استراحة قصيرة تجولنا في المجمع الراقي الذي يضم سكنا للضباط والأفراد كما لو كان من فئة فنادق الخمس نجوم، مكون من مطبخ ومطعم وعيادة طبية بصيدلية، ومغاسل للملابس، ومستودعات للذخيرة، وورش للصيانة، وكاميرات المراقبة لحماية المجمع من أي اعتداء، إضافة إلى ميدان للتدريب على رأس العمل لعقد الدورات وسط الصحراء الأمر الذي يغني عن الذهاب للمدن لتلقي الدورات المتخصصة في مجال العمل الميداني ومواجهة المهربين والمتسللين، ومن باب التشجيع رصد قائد القطاع جوائز ومحفزات معنوية للمتميزين في التدريب والرماية والمطاردة وكيفية التعامل مع الأحداث، وأشار قائد المجمع إلى أن التدريب يشتمل أيضا على كيفية اقتفاء الأثر سواء للسيارات أو المتسللين والمهربين الراجلين، مؤكدا أن التدريب على رأس العمل أعطى النتائج الإيجابية خاصة من خلال التنافس بين جميع العاملين في المجمع، وقال إنه يتم تطبيق فرضيات على أرض الواقع تكشف مدى استفادة العاملين في المجمع من هذه الدورات وإن مخرجاتها جاءت بالنتائج المرجوة.
حرصنا على مشاهدة عملية تكميل أفراد الدوريات التي ستباشر عملها في الميدان للاستلام من زملائهم في الميدان، وتولى هذه العملية الملازم أول سلطان الشهري، وكان من بين أفراد هذه الدوريات كبار سن في العقد الخامس من أعمارهم كلهم حماس يتسلحون بالخبرة وهم يباشرون أعمالهم في حماية الحدود من المهربين والمتسللين، شاهدتهم يعدون سياراتهم ويطمئنون على وضعها بالتنسيق مع فرق الصيانة في المجمع، غادروا المجمع وهم يدركون أنهم في مرمى الخطر، وأنهم قد لايعودون إلى مجمعهم، لكن كل هذا لم يعد يخيفهم أو يشكل لهم مصدر قلق، فقد اكتسبوا من طبيعة عملهم في الصحراء، حب المغامرة والبحث عن شرف أداء الواجب.